يحكى أن مالك بن دینار رضي الله عنه ، كان ماشية في بعض أزقة البصرة ، إذا هو بجارية من جواري الملك ، راكبة ومعها الخدم والمماليك ، فسمع حسها خلفه ، فإلتفت إليها وهي راكبة ، فرأى زهرتها وهيئتها وحالها ، فنادى : ايتها الجارية هل يبيعك مولاك؟
قال : فلما سمعت منه تلك الكلمة ، نظرت إليه ، فرأت عليه عباءة خلقة بالية ، وله هيئة حسنة وتواضع وسكينة الله عز وجل . فقالت للخدم : أمسكوا مطيتي ، فمسكوها .
فردت رأسها إليه ، وقالت له : يا شيخ ، أعد علي مقالتك .
قال : قلت : هل يبيعك مولاك ؟
قالت : ويلي عليك، وهل لمثلك ما يشتريني به لو باعني ؟
قال : فحف به المماليك ، وأمرت أن يحمل إلى دارها، فسار معهم حتى أتت قصرها، فقام إليها حجبة الدار فأنزلوها ، فدخلت ، وبقي مالك بباب القصر حتى وصلت إلى مولاها ، فقالت : يا مولاي ، ألا أحدثك بعجب؟.
قال : وما هو يا حسنة ؟
قالت : يا مولاي ، لقيني شيخ كبير وفقير عليه عباءة رثة بالية ، فنظر إلى حسني وجمالي وبهائي وكمالي وماليكي ، فأعجبه ما رأی من هیأتي ، فقال : هل يبيعك مولاك ؟. فضحك مولاها من ذلك وقال : وأين هو ويلك ؟.
قالت : قد جئت به معي وهو بباب القصر .
فقال : أدخلوه علي .
طالع ايضا: قصة موسى عليه السلام للأطفال |
فدخل مالك ، ولم يعرفه الرجل ، فلما وقف بباب مجلسه ، إذ هو ببيت مملوء بضروب من الوطا”، والمتكا ، وإذا بصاحب القصر جالس على مرتبة عظيمة ، فجعل مالك ينظر إليه ، فقال : مالك ؟ أدخل أيها الشيخ .
فقال مالك : لا أدخل حتى ترفع ، وتغيب عني فتنته ، حتى لا أنظر إليه ، ولا أطا شيئا منه . فألقى الله الهيبة والطاعة في قلب صاحب القصر ، فأمر برفع الوطاء والبسط ، حتی کشف عن الرخام، وقعد صاحب القصر على كرسي وقال: إجلس أيها الشيخ كما أحببت . قال : لا والله حتى تنزل عن هذا الكرسي ، وتجلس على الرخام”.
قال : فجلس الرجل وجلس مالك معه .
فقال رب البيت : قل حاجتك أيها الشيخ .
قال : جاريتك هذه التي دخلت عليك الساعة ، أتبيعها لي ؟ .
فقال له صاحب القصر : وهل لك ما تبتاعها به مني ؟.
قال : وما ثمنها ؟.
قال له : إن من شأنها وقدرها وحالها وما لها تساوي كذا وكذا ألفا .
فقال مالك : والله ما تساوي عندي نواتين مسوستين .
فضحك الرجل ، وضحكت الجارية ، وضحك الجواري والخدم من وراء الستر من كلام مالك .
فقال مالك : ما أضحككم ؟.
قال صاحب البيت : وكيف كان ثمنها بهذه الحساسة عندك؟.
فقال مالك : لكثرة عيوبها .
قال : ومن أعلمك بعيوبها ؟.
قال : أنا أعلم من عيوبها ما لم تعلم أنت .
قال : أعلمني بها ، وأوقعني عليها .
قال : إن لم تستعطر تغيرت ، وإن لم تستك بخرت”، وإن لم تغتسل بظرت”، وإن لم تمنشط نملت” وشعثت”، وإن عمرت عن قليل هرمت، وهي ذات بخار”، وبصاق ، وحيض ، وبول”، وغائط، وأقذار جملة، وآفات بينة، ولعلها لا تريدك إلا لنفسها ، ولا تحبك إلا لتمتعها بك ، ومتعك بها ، فلا تفي بعهدك، ولا تصدق في ودك وعهدك ، ولا يتخلف عليها أحد من بعدك إلا رأته مثلك، وأنا أجد بدون ما سألت جارية خلقت من سلالة الكافور”، ولو مزج بريقها الأجاج الطاب، ولو دعي ميت بكلامها لأجاب، ولو بدا معصمها للشمس لأظلمت دونه، ولو برز لسواد الليل لسطع نوره، ولو واجهت الآفاق بحليها وحللها”، لتزخرفت”، ولو نفخ ريح “ذوائبها على الأرض وما فيها التعطرت فيه العطرة الشكلة المفنجة المتنسقة التي نشات في رياض المسك. والزعفران” ، وغنيت بماء التسنيم ، فلا يكسف بالها ، ولا يجول حالها ، ولا يخلف عهدها ، ولا يتبدل ودها، ولا يتوقع صدها ، فأيهما أحق بالرفعة أنها المغرور ؟.
قال : التي والله وصفت ، فما ثمنها يرحمك الله ؟.
قال : اليسير المبذول ، أن تتفرغ ساعة من ليلك ، فتقوم فتصلي ركعتين تخلصهما لربك ، وأن تضع طعامك بين يديك ، فتذكر جائعة ، فتؤثره لله على شهوتك ، وأن تخطو بالطريق فتلتقط منه حجرا” ومدرة”، وأن تحرك لسانك بطيب الكلام ، أو بذكر الله ، وأن تقطع أيامك باليسير من القوت، وترفع همتك” عن دار الغفلة، فتعيش في الدنيا عيش القنوع، راسخا، وتأتي غدا يوم القيامة آمنا، وتنزل على الملك الأكبر مخلدة . قال : فعند ذلك نادي : با جارية . قالت : لبيك يا مولاي . قال : أسمعت ما قال الرجل ؟
قالت : نعم
قال لها : هل هو صادق ام كاذب ؟
قالت : بل هو – والله – صادق .
قال : فأنت إذن حرة لوجه الله تعالى ، وضيعة كذا وكذا عليك صدقة ، وأنتم أيها الغلمان أحرار ، وضياع كذا وكذا عليكم صدقة ، وهذه الدار صدقة بجميع ما فيها من الأثاث والأموال على الفقراء والمساكين . ومد يده على ستر كان على بعض أبوابه ، فأخذه وستر به نفسه ورمي جميع ماكان عليه من اللباس .
قالت الجارية : يا مولاي ، لا عيش لي بعدك ، فرمت بكسوتها ** وليست ثوبة خشنة”، وخرجت معه ، فودعهما مالك بن دینار ودعا لهما ، وأخذ طريقة ، وأخذ مالك طريقا آخر .
قال : ناقل الحديث : فذكر أنهما لم يزالا يعبدان الله عز وجل على تلك الحالة حتى لقيامه